فصل: أحكام التّخاير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


خيار فوات الشّرط

التّعريف

1 - سبق تعريف الخيار لغةً واصطلاحاً في مصطلح ‏"‏ خيار ‏"‏ وكذلك سبق تعريف الشّرط في مصطلح ‏"‏ خيار الشّرط ‏"‏ وفوات الشّرط‏:‏ هو عدم تحقيق الغرض منه، وخيار فوات الشّرط‏:‏ هو خيار يثبت بفوات الفعل المشروط من العاقد فوق مقتضى العقد‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - لهذا الخيار صلة بأنواع الخيارات الأخرى من حيث إنّها جميعاً تسلب لزوم العقد مع انفراد كلّ خيار بالإضافة المثبتة له، كالعيب أو الرّؤية ونحو ذلك، وينظر ما يتّصل بكلّ خيار في مصطلحه‏.‏

الأحكام المتعلّقة بخيار فوات الشّرط

3 - من المبادئ المقرّرة عند الحنفيّة أنّ العاقد إذا امتنع عن الوفاء بشرط التزم به للعاقد الآخر في العقد - وكان شرطاً صحيحاً - فإنّ الأصل أن يتوصّل المشترط إلى تنفيذه بالرّجوع إلى القضاء ليوفّي المتخلّف عن الشّرط جبراً‏.‏

وهذا في شرط يمكن الإجبار عليه، بخلاف ما لا يمكن إجبار الممتنع على فعله‏.‏ كالتزامه بأن يقدّم رهناً بالثّمن‏.‏ فهاهنا يثبتون خيار فوات الشّرط وإن كانوا لا يسمّونه بذلك، بل يعبّرون بأنّ له حقّ فسخ العقد، يقول الكاسانيّ‏:‏ يقال له‏:‏ إمّا أن تدفع الرّهن - أو قيمته - أو تؤدّي الثّمن ‏"‏ عاجلاً ‏"‏ أو يفسخ البائع البيع‏.‏‏.‏ ولو امتنع المشتري من هذه الوجوه فللبائع أن يفسخ البيع لفوات الشّرط والغرض‏.‏

ثمّ نصّ على أنّ منه البيع بشرط إعطاء الكفيل، ولم يجعل منه شرط الحوالة والضّمان‏.‏

أمّا الشّافعيّة فقد أخذوا بمبدأ النّهي عن بيع وشرط، كما لو باعه بشرط أن يقرضه، أو اشترى ثوباً بشرط أن يخيطه البائع، أو زرعاً بشرط أن يحصده البائع‏.‏

لكنّهم استثنوا من النّهي عن بيع وشرط صوراً حكموا بصحّتها، كالبيع بشرط الأجل، أو الرّهن، أو الكفيل - مع المعلوميّة والتّعيين في ذلك كلّه - أو بشرط الإشهاد‏.‏

فإن لم يوفّ الملتزم بالشّرط بأن لم يرهن أو لم يتكفّل الكفيل المعيّن ثبت الخيار للمشترط لفوات الشّرط‏.‏

ولا يجبر من شرط عليه الشّرط على القيام بما شرط، لزوال الضّرر بالفسخ، كما لا يقوم غير المعيّن مقامه إذا تلف‏.‏

ونحو ذلك للحنابلة فقد نصّوا على أنّه في البيع بشرط الرّهن والكفيل إن وفّى الملتزم بالشّرط لزم العقد، وإن أبى فللمشترط الخيار بين الفسخ والإمضاء بدون مقابل عن ترك الرّهن والكفيل‏.‏

والمذهب الحنبليّ هو أوسع المذاهب عنايةً بالشّروط وذلك باعتبار أنّ الأصل في العقود رضا المتعاقدين ونتيجتها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتّعاقد‏.‏

وقد اعتدّوا بمبدأ مقتضى العقد في اعتبار الشّروط بعدما وسّعوا من مفهومه، على أساس أنّ مصلحة العاقد هي من مقتضى العقد ولو لم يوجبها العقد فأباحوا أكثر من شرط الرّهن والكفيل الّذي اقتصر عليه غيرهم، على أن يكون ممّا لا يصادم نصّاً شرعيّاً أو أصلاً من أصول الشّريعة‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ الشّرط قد يكون في ذاته غير ملزم شرعاً للمشروط عليه ومع ذلك يصحّ اشتراطه وتكون ثمرة صحّة اشتراطه تمكين الشّروط له من فسخ العقد عند عدم وفاء المشترط‏.‏

ولم يذكر الحنابلة مع هذا خيار فوات الشّرط في عداد ما أوردوه من خيارات‏.‏

إلاّ أنّ صاحب ‏"‏ غاية المنتهى ‏"‏ استوجه أن يزيد على الخيارات الثّمانية المتداولة عند الحنابلة ‏"‏ باستمرار ‏"‏ قسماً تاسعاً من أقسام الخيار وهو الخيار الّذي ثبت للمشتري لفقد شرط صحيح، أو فقد شرط فاسد، سواء كان يبطل العقد أو لا يبطله، وقد أقرّه الشّارح على ذلك الاستدراك، وإن كانت فائدته شكليّةً فالخيار كما رأينا معتبر في المراجع الفقهيّة للحنابلة وإن لم تبرزه استغناءً عنه بما يوردونه في خيار الشّرط من صوره وقيوده‏.‏

انتقاله بالموت

4 - نصّ الشّافعيّة على أنّ الخيار الثّابت للبائع عند عجز المشتري عن تسليم الرّهن المشروط في البيع ينتقل إلى الوارث بلا خلاف‏.‏

سقوطه وبقيّة أحكامه

5 - يطبّق ما يجري في خيار العيب كما ذكر في الكلام عن خيار فوات الوصف،‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ خيار فوات الوصف‏)‏‏.‏

خيار فوات الوصف

التّعريف

1 - التّعريف المختار لخيار فوات الوصف مستمدّاً من ماهيّة هذا الخيار، هو‏:‏ حقّ الفسخ لتخلّف وصف مرغوب اشترطه العاقد في المعقود عليه ‏"‏‏.‏

ومثاله‏:‏ أن يشتري إنسان شيئاً ويشترط فيه وصفاً مرغوباً له، كمن اشترى حصاناً على أنّه عربيّ أصيل فإذا هو هجين، أو اشترى جواداً على أنّه هملاج ‏"‏ سريع المشي في سهولة ‏"‏ فإذا هو بطيء، أو سريع في اضطراب وعسر، وكذلك شراء البقرة على أنّها حلوب ‏"‏ كثيرة اللّبن زيادةً عن المعتاد في أمثالها ‏"‏‏.‏

ومن الأمثلة العمليّة‏:‏ اشتراط كون الكلب صائداً، وشرط كون الثّمن مكفولاً به‏.‏

تسميته

2 - يسمّى هذا الخيار أيضاً بخيار خلف الوصف المشروط،وقد يقتصر على ‏"‏ خيار الخلف ‏"‏ أو يدعى ‏"‏ تخلّف الصّفة ‏"‏، وأحيانًا يسمّيه بعض المصنّفين ‏"‏ خيار الوصف ‏"‏ لكنّ هذه التّسمية موهمة لأنّ خيار الوصف يطلق عند الأكثرين على مطابقة المبيع الغائب للوصف إذا بيع على الصّفة، وهو ممّا ينتفي به خيار الرّؤية إلاّ عند من يراه للتّروّي ولو طابق، كما أنّ بعضهم يبحثه مستقلّاً، وآخرون يلحقونه بخيار العيب أو خيار الشّرط‏.‏

مشروعيّة اشتراط الوصف في البيع

3 - لا سبيل إلى إثبات مشروعيّة هذا الخيار إلاّ بإثبات موضوعه وهو ‏"‏ اشتراط صفة مرغوبة في المعقود عليه لولا الاشتراط لم تثبت ‏"‏، ومستند صحّة هذا الاشتراط هو تسويغ الشّروط العقديّة، وقد كان للفقهاء في هذه النّظريّة مواقف مختلفة مع صعيد مشترك بينهم هو الصّحّة، بعد توافر ما يتطلّبه كلّ مذهب من شرائط‏.‏

وهذا الموضوع واقع في النّطاق الّذي لا خلاف فيه بين الفقهاء، وهو ‏"‏ الشّرط الّذي يعتبر من مصالح العقد ‏"‏ كاشتراط الرّهن أو الكفيل، أمّا اشتراط صفة زائدة فهو مقيس عليه‏.‏

وسبب اعتبار الحنفيّة اشتراط الوصوف سائغاً أنّهم أنزلوه منزلة الشّرط الّذي يقتضيه العقد إذا كان لا غرر فيه، ذلك أنّ الوصف لو كان موجوداً في البيع، دون التفات إلى اشتراط المشتري له، فإنّه يدخل في العقد ويكون من مقتضياته، فكان اشتراطه صحيحاً إذا لم يكن فيه غرر‏.‏ ثمّ إنّ الوصف المرغوب فيه يرجع إلى صفة الثّمن أو المثمّن، فهو ملائم للعقد‏.‏

3 م - ولمّا كان المهمّ في تسويغ اشتراط الصّفة الأثر المترتّب على الإخلال بالشّرط هل هو الفساد - كما هو الحال في الاشتراط في غير الصّفات - أم التّخيير بين أمرين أحدهما الرّدّ‏؟‏ ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الأثر هو التّخيير، ولم يقولوا بفساد العقد حين تخلّف الوصف ‏;‏ لأنّ تخلّفه لا يؤدّي إلى اختلاف الجنس وذلك حيث يقع فيه العقد على جنس فيظهر أنّ المبيع جنس آخر، وإنّما لم يكن كذلك هنا، لأنّ فوات الوصف راجع إلى اختلاف النّوع لقلّة التّفاوت في الأغراض، فلا يفسد العقد بفواته‏.‏

وصار كفوات وصف السّلامة الّذي فيه خيار العيب، فيكون في هذا خيار الوصف بالقياس‏.‏

مشروعيّة خيار فوات الوصف

4 - ذهب إلى إثبات هذا الخيار الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في الأصحّ‏.‏

ويستند ثبوته على ثبوت خيار العيب، وبيان ذلك أنّ فوات الوصف المرغوب بعد أن حصل في العقد الالتزام من البائع به، هو في معنى فوات وصف السّلامة في المبيع إذا ظهر فيه عيب، فكما يثبت في الصّورة الأخيرة خيار العيب يثبت في الصّورة الأولى خيار الوصف‏.‏ وكلّ من الخيارين ثبت لتخلّف شرط في الحلّ، غير أنّ الشّرط في خيار العيب ثابت دلالةً، كما يقول الكاسانيّ، أمّا في خيار الوصف فهو ثابت نصّاً‏.‏

ولهذا أورد الشّافعيّة خيار فوات الوصف تاليًا لخيار العيب أو مختلطاً به، كما فعل الشّيرازيّ، وقد علّل حقّ الخيار فيه بأنّه ظهر أنقص ممّا شرط، وأضاف السّبكيّ‏:‏ فصار كالمعيب الّذي يخرج أنقص ممّا اقتضاه العرف‏.‏

شرائط قيام خيار فوات الوصف

5 - هذه الشّرائط بعضها ينبغي وجوده في الوصف ليكون معتبراً اشتراطه، وبعضها يتّصل بتخلّف الوصف أو فواته لينشأ عن ذلك صحّة البيع مع الخيار بدلاً من الفساد أو البطلان‏.‏

شرائط الوصف المعتبر

6 - يشترط لكون الوصف معتبراً‏:‏

أولاً - أن يكون المطلوب وجوده وصفاً‏:‏ أمّا لو كان ملكيّة عين أخرى أو منفعةً ونحو ذلك ممّا هو ليس من قبيل الأوصاف فليس من باب فوات الوصف وإنّما هو من باب الشّروط‏.‏

ومن هنا ذهب الحنفيّة إلى فساد اشتراط كون الشّاة حاملاً، لأنّ ذلك ليس بوصف بل اشتراط مقدار من المبيع مجهول، وضمّ المعلوم إلى المجهول يجعل الكلّ مجهولاً، وقد ذكر ابن عابدين أنّ الوصف، ما يدخل تحت المبيع بلا ذكر، كالجودة، والأشجار، والبناء والأطراف‏.‏

ثانياً - أن يكون الوصف المرغوب مباحاً في الشّرع، ‏"‏ أو مقرّراً منه ‏"‏‏:‏ فاشتراط المحظور من الأوصاف لاغ، كاشتراطه في الكبش كونه نطّاحاً، أو الدّيك صائلاً ‏"‏ لاستعماله في صور من اللّهو محظورة ‏"‏ لأنّ ما لا يقرّه الشّارع يمتنع الالتزام به‏.‏

ثالثاً - أن يكون الوصف منضبطاً ‏"‏ ليس فيه غرر ‏"‏‏:‏ وذلك بحيث يمكن معرفته والحكم بوجوده وعدمه‏.‏

رابعاً - أن يكون الوصف مرغوباً فيه‏:‏ وذلك بحسب العادة،فلو اشترط ما ليس بمرغوب أصلاً، كأن يكون معيباً فإذا هو سليم فلا خيار له‏.‏ ويتّصل بالكلام عن مرغوبيّة الوصف أن يتحقّق في المبيع وصف أفضل من الوصف المرغوب، فإذا تبيّن أنّ الوصف خير ممّا اشترطه فالعقد لازم ولا خيار له، وذكروا من أمثلته أن يشترط في الجمل أنّه بعير فإذا هو ناقة، والمشتري من أهل البادية الّذين يرغبون ما فيه الدّرّ والنّسل‏.‏

ولأصحاب المذاهب تفصيل في ضبط الوصف المرغوب، فالمالكيّة يرون أنّه ما فيه غرض للعاقد سواء كان فيه ماليّة أم لا، لأنّ الغرض أعمّ من الماليّة، والشّافعيّة يرون أنّه ما فيه ماليّة لاختلاف القيم بوجوده وعدمه، وأوجزه ابن حجر بقوله‏:‏ الّذي يدلّ عليه كلامهم‏:‏ أنّه كلّ وصف مقصود منضبط فيه ماليّة‏.‏

وذكر السّبكيّ تقسيم إمام الحرمين والغزاليّ والرّافعيّ الصّفات المشروطة إلى ثلاثة‏:‏

أ - أن يتعلّق بها زيادة ماليّة يصحّ التزامها ويثبت الخيار بتخلّفها‏.‏

ب - أن يتعلّق بها غرض صحيح غير المال وتخلّفها يثبت الخيار على خلاف‏.‏

ج - أن لا يتعلّق بها ماليّة ولا غرض مقصود، واشتراطها لغو لا خيار بفقده، ثمّ استحسن من النّوويّ جعلها قسمين بالاقتصار على الغرض المقصود أو عدمه‏.‏

خامساً- أن يشترط المشتري الوصف المرغوب، ويوافق على ذلك البائع في العقد، فلا يعتبر حال المشتري قرينةً كافيةً عن الاشتراط‏.‏

وذلك لأنّ هذا الوصف يستحقّ في العقد بالشّرط - لا بمجرّد العقد - فلولاه لما استحقّ‏.‏ على أنّه تعتبر حال المشتري في تفسير الوصف فيما إذا حصل اشتراطه بصورة مقتضبة‏.‏ وكذلك يؤخذ حال المشتري بالاعتبار في الحكم على الوصف الموجود في البيع، هل هو أفضل من الوصف المشروط فيسقط خياره أم دونه‏.‏ ولو اشترى كلباً معروفاً بأنّه صائد ثمّ تبيّن نسيانه، يثبت للمشتري خيار الوصف ولو لم يشترط صراحةً، ككون الكلب صائدًا، لأنّ الظّاهر أنّه اشتراه رغبةً في هذه الصّفة، فصارت مشروطةً دلالةً‏.‏

وفي منزلة الشّرط الصّادر من المشتري ما يصدر من البائع من المناداة على السّلعة حال البيع أنّها كذا وكذا، فتردّ بعدم هذا الوصف‏.‏

قال الدّسوقيّ‏:‏ ولا يعدّ ما يقع في المناداة من تلفيق السّمسار حيث كانت العادة أنّهم يلفّقون مثل ذلك، فلا ردّ عند عدم ما ذكره في المناداة على الظّاهر لدخول المشتري على عدم ذلك‏.‏

شرائط تخلّف الوصف أو فواته

7 - يشترط في تخلّف الوصف ‏"‏ لبقاء العقد صحيحاً واستلزامه الخيار ‏"‏‏:‏

أ - أن يكون التّخلّف داخلاً تحت جنس المبيع، أمّا لو اشترط أنّ الثّوب قطن فإذا هو كتّان فالعقد غير صحيح لاختلاف الجنس‏.‏ ولمّا كان فوات الوصف الّذي يؤدّي إلى اختلاف حال المبيع عن المعقود عليه غامضاً، وضع الفقهاء له ضابطاً يراعى لإعطاء كلّ حالة حكمها المناسب من بين الأحكام التّالية‏:‏ الفساد، الصّحّة وثبوت الخيار، الصّحّة دون خيار‏.‏ والضّابط هو فحش التّفاوت في الأغراض وعدمه وذلك بأن يقارن المبيع بالمسمّى في العقد ويرى مدى الاختلاف بينهما، فإن كان المبيع من جنس المسمّى والاختلاف في النّوع فحسب، ففيه الخيار، أمّا إن كان التّفاوت في الجنس فحكمه الفساد‏.‏

ولهذا تفصيل جيّد أورده ابن الهمام، وهو مثال يحتذى للتّمييز في غير الذّوات الّتي اتّخذها موضوعاً للتّوضيح، فقد ذكر أنّ ضابط اختلاف الموجود عن المشروط هو إن كان المبيع من جنس المسمّى ففيه الخيار وذكر أنّ ما فحش التّفاوت بين أغراضه فهو أجناس، وما لم يفحش فهو جنس واحد، وأورد فيما يعتبر من الثّياب أجناساً كالكتّان، والقطن‏.‏ وأنّ الذّكر مع الأنثى‏.‏ وأمّا اختلاف النّوع دون الجنس فمن أمثلته‏:‏ شراء لحم على أنّه لحم معز فإذا هو لحم ضأن، وعكسه‏.‏

حدّ الفوات

8 - إذا وجد المشتري في المبيع بعد قبضه أدنى ما ينطلق عليه اسم الوصف المشترط فلا يكون له حقّ الرّدّ، أمّا إن لم يجد الوصف أصلاً أو وجد منه شيئاً يسيراً ناقصاً بحيث لا ينطلق الاسم عليه فله حقّ الرّدّ‏.‏

ومثاله أن يشترط في شراء الكلب أن يكون كلباً صائداً، فوصف الصّيد له مفهوم وهو الاستجابة للدّعوة إلى الانقضاض على الصّيد، والائتمار بأمر مرسله بحيث يرجع إن استدعاه أو ينطلق إن أغراه، فمتى وجد هذا الوصف ولو لم يكن بالصّورة المثلى الّتي يندر معها إفلات الفريسة منه، لم يكن له حقّ الرّدّ‏.‏ أمّا إذا كان لا يصيد أصلاً، أو يصيد بصورة ناقصة لا يستحقّ معها أن يسمّى ‏"‏ صائداً ‏"‏ فله حقّ الرّدّ‏.‏

ب - أن يكون فوات الوصف المشترط ليس عيباً‏:‏

9 - وقد تواردت عبارات فقهاء المذاهب المثبتين لهذا الخيار على أنّ الصّفة المقصودة ينبغي أن تكون ممّا لا يعدّ فقدها عيباً، وإلاّ كانت القضيّة من باب خيار العيب‏.‏

موجب خيار فوات الوصف

10 - إذا تحقّق فوات الوصف المشروط - كما سبق - وكان مستوفياً الشّرائط ثبت للمشتري الخيار‏.‏ وماهيّة هذا الخيار أن يكون له حقّ ردّ المبيع، أو أخذه بجميع الثّمن دون أرش للوصف الفائت‏.‏

هذا، إذا لم يمتنع الرّدّ، فإن امتنع الرّدّ بسبب من الأسباب رجع المشتري على البائع بحصّة الوصف الفائت من الثّمن‏.‏ وذلك بأن يقوّم المبيع موصوفاً بذلك‏.‏ الوصف وغير متّصف به، ويرجع بالتّفاوت‏.‏

وهناك رواية عن أبي حنيفة أنّه لا يرجع بشيء، لأنّ ثبوت الخيار للمشتري بالشّرط لا بالعقد، وتعذّر الرّدّ في خيار الشّرط لا يوجب الرّجوع على البائع، فكذا هذا، والصّحيح الرّواية السّابقة - وهي من ظاهر الرّواية‏.‏ لأنّ البائع عجز عن تسليمه وصف السّلامة، كما في العيب‏.‏

أمّا انحصار الخيار في أمرين، هما الرّدّ أو الأخذ بجميع الثّمن، وعدم تخويل المشتري الرّجوع بحصّة الفوات إلاّ عند امتناع الرّدّ، فهو أنّ الفائت وصف، والأوصاف لا يقابلها شيء من الثّمن، لكونها تابعةً في العقد تدخل من غير ذكر، ولو فاتت بيد البائع قبل التّسليم لم ينقص من الثّمن شيء‏.‏

العقود الّتي يثبت فيها خيار فوات الوصف

11 - ذكر الفقهاء أنّ مجال هذا الخيار هو مجال خيار العيب، وهي أن يكون العقد على ما يتعيّن، فلا يثبت في المبيع غير المعيّن بالتّعيين، وهو المبيع الّذي يثبت في الذّمّة لأنّه إذا لم يظهر على طبق الوصف فهو غير المبيع‏:‏ وكذلك لا يثبت في المبيع الغائب، لأنّ للمبيع الغائب خياراً خاصّاً به وهو خيار الرّؤية‏.‏

توقيت خيار فوات الوصف

12 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه يثبت على التّراخي ولا يتوقّت بزمن معيّن إلى أن يوجد ما يسقطه ممّا يدلّ على الرّضا‏.‏

ويرى المالكيّة توقيته بيوم أو يومين، أمّا الشّافعيّة فهو عندهم على الفور‏.‏

وذلك كلّه منسجم مع اعتبار خيار فوات الوصف بخيار العيب وابتنائه عليه‏.‏

انتقاله بالموت

13 - هذا الخيار يورث بموت مستحقّة، فينتقل إلى ورثته، لأنّه في ضمن ملك العين، هكذا صرّح الحنفيّة، وأمّا غيرهم فالانتقال عندهم مقرّر فيه وفي أمثاله من الخيارات المتّصلة بالعين‏.‏

سقوطه

14 - يسقط بما يسقط به خيار العيب، وتفصيله في ‏(‏خيار العيب‏)‏‏.‏

خيار القبول

انظر‏:‏ بيع‏.‏

خيار كشف الحال

التّعريف

1 - الكشف في اللّغة‏:‏ هو الإظهار، ورفع شيء عمّا يواريه ويغطّيه، يقال‏:‏ كشفه فانكشف‏.‏ والتّكشّف من تكشّف أي ظهر، كانكشف‏.‏ والحال معروف المعنى‏.‏

والتّعريف الاصطلاحيّ مستمدّ من هذا المعنى، فخيار الكشف هو‏:‏ حقّ الفسخ لمن ظهر له مقدار المبيع على غير ما ظنّه‏.‏ وسمّاه الحنفيّة بأسماء عديدة من نفس المادّة اللّغويّة، فقد دعوه‏:‏ كشف الحال، وانكشاف الحال، والتّكشّف‏.‏

والمراد من هذا الخيار يظهر من استعراض مجاله، فهو يجري في المقاييس الشّخصيّة الّتي يلجأ إليها المتعاقدان أحياناً بدلاً من المقاييس المتعارف عليها، سواء كان المقياس من وسائل الكيل أو الوزن‏.‏ ومثاله المتداول لدى الفقهاء‏.‏ أن يبيع شخص شيئاً ممّا يباع بالكيل أو الوزن فلا يستعمل لتقديره المكاييل أو الموازين المتعارف عليها، بل يبيعه بإناء بعينه لا يعرف مقداره، كصندوق أو كيس‏.‏ أو بوزن حجر بعينه كذلك‏.‏ فالبيع صحيح بشروط خاصّة ‏"‏ سيأتي بيانها ‏"‏ ومستتبع حقّ الخيار للمشتري، أي أنّ البيع غير لازم‏.‏

وفي صحّته خلاف عنيت بذكره كتب الحنفيّة‏.‏

مشروعيّته

2 - أخذ الحنفيّة بهذا الخيار في رواية وذكروه في عداد الخيارات المسمّاة عندهم‏.‏

وأثبت هذا الخيار أيضاً الشّافعيّة، وإن أطلقوا عليه غير هذه التّسمية، وأحياناً لم يسمّوه بل عبّروا عنه‏.‏

فقد ذكر ابن حجر أنّه لو قال‏:‏ ‏"‏ بعتك ملء هذا الكوز أو البيت من هذه الصّبرة، أو زنة هذه الحصاة من هذا الذّهب، هو صحيح‏.‏ لإمكان الأخذ من المعيّن قبل تلفه‏.‏ والعلم بالقدر المعيّن لا يشترط، بخلاف ما لو قال‏:‏ في ذمّتي صفتها كذا ‏"‏‏.‏

وقد منعه المالكيّة وعدّوه من أنواع بيع الغرر المنهيّ عنها‏.‏

والمنع رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة‏.‏ ووجه القول بالجواز أنّ الجهالة الثّابتة في هذا العقد لا تفضي إلى المنازعة، لأنّه يتعجّل تسليمه في المجلس ‏"‏ وهو أحد الشّروط الخاصّة ‏"‏ وإنّما يمنع الصّحّة الجهالة المفضية للنّزاع‏.‏

قال ابن الهمام‏:‏ الوجه يقتضي أن يثبت الخيار إذا كال به أو وزن للمشتري، كما في الشّراء بوزن هذا الحجر ذهباً، نصّ في جميع النّوازل ‏"‏ أي كتب الفتاوى ‏"‏ على أنّ فيه الخيار إذا علم به، ومعلوم أنّ ذلك بالوزن‏.‏ ثمّ لم يكتف ابن الهمام بما نقل، بل أتى بنظير لهذا الحكم فقال‏:‏ وأقرب الأمور إلى ما نحن فيه قول أبي حنيفة فيما إذا باع صبرةً كلّ قفيز بدرهم‏:‏ أنّه إذا كال في المجلس حتّى عرف المقدار صحّ ويثبت الخيار للمشتري كما إذا رآه ولم يكن رآه وقت البيع، مع أنّ الفرض أنّه رأى الصّبرة قبل الكيل ووقعت الإشارة إليها‏.‏ أمّا القول بالمنع فوجهه أنّ البيع في المكيلات والموزونات، إمّا أن يكون مجازفةً أو بذكر القدر، ففي المجازفة‏:‏ المعقود عليه ما يشار إليه، وعند ذكر القدر‏:‏ المعقود عليه ما سمّي من القدر ولم يوجد شيء منهما، فإنّه ليس بمجازفة، ولا سمّي قدر معين إذ لم يكن المكيال معلوماً‏.‏

شرائط صحّة العقد مع خيار الكشف

3 - يشترط لصحّة البيع المذكور المستلزم خيار كشف الحال‏:‏

أ - بقاء المكيال، أو الميزان، غير المعروف على حالهما‏:‏ فلو تلفا قبل التّسليم فسد البيع، لأنّه لا يعلم مبلغ ما باعه إيّاه‏.‏ وهذا الشّرط ذكره في البحر نقلاً عن السّراج وأورده ابن عابدين مقرّاً له‏.‏

ب - تعجيل تسليم المبيع‏:‏ أي تسليمه في مجلس العقد قال ابن الهمام‏:‏ ‏"‏ كلّ العبارات تفيد تقييد صحّة البيع في ذلك بالتّعجيل ‏"‏ ومن ذلك عبارة السّرخسيّ‏:‏

لو اشترى بهذا الإناء يداً بيد فلا بأس به، ثمّ إنّ في المعيّن البيع مجازفةً يجوز، فبمكيال غير معروف أولى‏.‏ وهذا لأنّ التّسليم‏:‏ عقيب البيع‏.‏

ج - يشترط ‏"‏ في الكيل خاصّةً ‏"‏ أن لا يحتمل المكيال الشّخصيّ النّقصان، بأن لا ينكبس ولا ينقبض، كأن يكون من خشب أو حديد‏.‏ أمّا إذا كان كالزّنبيل والجوالق فلا يجوز‏.‏

ومن ذلك القبيل بيع ملء قربة بعينها، أو راوية، فعن أبي حنيفة أنّه لا يجوز، لأنّ الماء ليس عنده ولا يعرف قدر القربة، لكن أطلق في المجرّد جوازه‏.‏ ولا بدّ من اعتبار القرب المتعارفة في البلد مع غالب السّقّائين‏.‏ وعن أبي يوسف إذا ملأها ثمّ تراضيا جاز‏.‏

قال ابن الهمام‏:‏ ولا شكّ أنّ القياس ما روي عن أبي حنيفة‏.‏

وأمّا الاستحسان الثّابت بالتّعامل فمقتضاه الجواز بعد أن يسمّي نوع القربة إذا لم تكن معيّنةً‏.‏ ثمّ بعد ذلك التّفاوت يسير أهدر في الماء‏.‏

خيار الكمّيّة

التّعريف

1 - ‏"‏ الكمّيّة ‏"‏، مصدر صناعيّ من ‏"‏ كم ‏"‏ وهي الأداة الموضوعة في اللّغة للسّؤال عن المقدار‏.‏ وخيار الكمّيّة في اصطلاح الفقهاء، على ما عرّفه صاحب الفتاوى السّراجيّة‏:‏ خيار البائع في الثّمن‏.‏ والمراد به ‏"‏ حقّ البائع في الفسخ لخفاء مقدار الثّمن عند التّعاقد ‏"‏‏.‏ ويسمّى هذا الخيار خيار الكمّيّة، لأنّه بسبب جهل كمّيّة الثّمن، لعدم رؤيته رؤيةً مفيدةً، بل يرى في وعاء بحيث لا يمكن معرفة مقداره‏.‏ وهذا الخيار شديد الشّبه من حيث الغرض، بخيار الرّؤية، ولكنّه لم يندرج فيه لما تقرّر من أنّ خيار الرّؤية لا يثبت في النّقود‏.‏

ولهذا الخيار تطبيقاته - على قلّتها - لكنّه يقع في حال المساومات الودّيّة، وفي المصالحة عن الحقوق، فيلجأ المبادل إلى تقديم صرّة من المال أو ربطة من الأوراق النّقديّة‏.‏

بل في المبايعات العادية أحيانًا يشتري الشّخص شيئًا بما في جيبه أو حقيبته من النّقود دون بيان المقدار، وإثبات هذا الخيار للبائع عند معرفة المقدار، يحقّق تمام التّراضي‏.‏

مشروعيّته

2 - ذهب الحنفيّة إلى إثبات هذا الخيار، وأدرجوه في عداد الخيارات الّتي أحصوها، ورأوا أنّه مكمّل لخيار الرّؤية‏.‏

واستدلّوا لثبوته بالقياس على خيار العيب، فهو على هذا خيار نقيصة، وربّما كان ثبوته علاجاً للجهالة - وهي الّتي ثبت لأجلها خيار الرّؤية - درءاً للجهالة وتخفيفًا للغرر‏.‏ وصنيع الحنفيّة في المقارنة بينه وبين خيار الرّؤية يدنو به إلى خيار الرّؤية، فكأنّه هو، لولا تخصيص خيار الرّؤية بالأعيان، وأمّا خيار الكمّيّة فهو للنّقود‏.‏

أحكام خيار الكمّيّة

3 - من شروط صحّة البيع معرفة مقدار الثّمن ووصفه، وذلك إذا كان الثّمن من الزّمرة الّتي تدعى‏:‏ الأثمان المطلقة، وهي الّتي تثبت مطلقةً عن الإشارة إليها‏.‏ ولذا اشترط معرفة المقدار والوصف لتنتفي الجهالة الفاحشة الّتي تمنع التّسليم والتّسلّم‏.‏ بخلاف المشار إليه‏.‏ فالعلم بالمقدار‏:‏ كأن يقول عشرة دراهم، والعلم بالصّفة‏:‏ أن يحدّد الدّراهم بأن ينسبها النّسبة المميّزة لها عن غيرها إذا كان ثمّة دراهم مختلفة، فالمشتري يريد دفع الأدون، والبائع يطلب الأرفع، فلا يحصل مقصود شرعيّة العقد‏.‏

والعقد بثمن مجهول غير صحيح، وذلك كما لو باع شيئاً بقيمته أو بما حلّ به، أو بما يريد المشتري، أو بما يحبّ، أو أن يجعل الثّمن رأس المال أو ما اشتراه به أو بمثل ما اشترى فلان، ولم يعلم المشتري بقدر ذلك في مجلس العقد لم يجز‏.‏ أمّا لو علم به فهو جائز‏.‏ ومنه ما لو باعه بمثل ما يبيع النّاس إلاّ أن يكون شيئاً لا يتفاوت‏.‏ ومنه أن يبيع على قدر ما باع به - وقد اختلف ما باع به - أو على ما يبيع به في المستقبل فهذا فاسد‏.‏

4 - وإذا لم يكن الثّمن مسمّىً بالعدد والنّوع بل كان مشاراً إليه، فإمّا أن تكون الإشارة إلى ذاته أو إلى وعائه، ففي الإشارة المباشرة إليه كما لو كانت الدّراهم في يده وهي مرئيّة له، فإنّه بقبول العقد يصحّ ويلزم، فلا خيار له، والوجه في هذا أنّ الباقي هي جهالة الوصف

‏"‏ يعني القدر ‏"‏ وهي لا تضرّ، إذ لا تمنع من التّسليم والتّسلّم، أمّا إذا كان مشاراً إليه ولكنّه في وعاء مانع من معرفة مقداره - ولو على سبيل التّقريب - كما لو كان في صندوق أو خابية، ثمّ رأى الثّمن بعدئذ بادياً دون وعاء كان له الخيار، لأنّه لم يعرف قبل مقداره من الخارج‏.‏ كما لو كان في صرّة‏.‏ فمذهب الحنفيّة عدم التّخيير، لأنّه عرف المقدار‏.‏

أمّا صاحب الدّرّ من الحنفيّة فقد فصّل في العبرة على أساس معرفة ما فيها من خارج، فإن كانت تعرف فلا خيار، وإن كانت لا تعرف من الخارج فحينئذ تكون بمثابة الخابية‏.‏ والضّابط في هذا‏:‏ ‏"‏ أنّ الوعاء المشتمل على الثّمن إن كان يدلّ على ما فيه‏.‏ ‏"‏ دلالةً تقريبيّةً ‏"‏ فلا يثبت معه خيار الكمّيّة، وإلاّ ثبت الخيار ‏"‏‏.‏

وقد تعرّض الشّافعيّة لما إذا كان الثّمن غير مسمّىً ولا محدّداً، بل كان صرّةً من الدّراهم تمّت المبادلة بها جزافاً لا يعلم واحد من المتعاقدين قدرها، لكنّها مشاهدةً منهما، صحّ البيع بلا خلاف‏.‏ لكن هل يكره البيع بصرّة الدّراهم جزافاً‏؟‏ فيه لدى الشّافعيّة قولان حكاهما الخراسانيّون، أصحّهما‏:‏ يكره، وبه قطع الشّيرازيّ وآخرون، لما فيه من الغرر‏.‏

والثّاني‏:‏ لا يكره، لأنّها مشاهدة‏.‏

خيار المجلس

التّعريف

1 - سبق الكلام عن كلمة ‏"‏ خيار ‏"‏ في مصطلح خيار بوجه عامّ، وأمّا كلمة ‏"‏ المجلِس ‏"‏ - بكسر اللّام - فهي ترد في اللّغة مصدراً ميميّاً، واسماً للزّمان، واسماً للمكان، من مادّة الجلوس، واستعماله المناسب هنا هو اسم للمكان، أي موضع الجلوس‏.‏

ومن الواضح أنّ كلمة ‏"‏ المجلس ‏"‏ تحمل معنى ‏"‏ مجلس العقد ‏"‏ فهي ليست لمطلق مجلس، بل لمجلس العقد خاصّةً، وهذا التّقييد تشير إليه ‏"‏ أل ‏"‏ فهي للدّلالة على المعهود في الذّهن‏.‏ والمراد مكان التّبايع أو التّعاقد‏.‏ فما دام المكان الّذي يضمّ كلا العاقدين واحداً، فلهما الخيار في إمضاء العقد أو فسخه، إلى أن يتفرّقا ويكون لكلّ واحد منهما مجلسه المستقلّ‏.‏

ومجلس العقد‏:‏ هو الوحدة الزّمنيّة الّتي تبدأ من وقت صدور الإيجاب، وتستمرّ طوال المدّة الّتي يظلّ فيها العاقدان منصرفين إلى التّعاقد، دون ظهور إعراض من أحدهما عن التّعاقد، وتنتهي بالتّفرّق، وهو مغادرة أحد العاقدين للمكان الّذي حصل فيه العقد‏.‏

وفي حكم التّفرّق حصول التّخاير‏.‏ وهو أن يخيّر أحدهما الآخر في إمضاء العقد أو ردّه‏.‏ لكنّ خيار المجلس لا يبدأ من صدور الإيجاب بل من لحاق القبول به مطابقاً له، أمّا قبل وقوع القبول فإنّ العاقدين يملكان خياراً في إجراء العقد أو عدمه، لكنّه خيار يدعى خيار القبول، وهو يسبق تمام التّعاقد‏.‏

هذا، وإنّ حقيقة الجلوس ليست مقصودةً في هذا الخيار المسمّى ‏"‏ بخيار المجلس ‏"‏، لأنّ المعتبر هو الفترة الزّمنيّة الّتي تعقب عمليّة التّعاقد دون طروء التّفرّق من مكان التّعاقد‏.‏ فالجلوس ذاته ليس معتبراً في ثبوته، ولا ترك المجلس معتبر في انقضائه، بل العبرة للحال الّتي يتلبّس بها العاقدان، وهي الانهماك في التّعاقد‏.‏

فخيار المجلس هو‏:‏ حقّ العاقد في إمضاء العقد أو ردّه، منذ التّعاقد إلى التّفرّق أو التّخاير‏.‏ ومعظم المؤلّفين يدعون هذا الخيار ‏"‏ خيار المجلس ‏"‏ غير أنّ بعضهم دعاه ‏"‏ خيار المتبايعين‏"‏ ولعلّ هذه التّسمية مأخوذة من الحديث المثبت لهذا الخيار، وهو «البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا»‏.‏ ففي بعض ألفاظه المرويّة‏:‏ «المتبايعان بالخيار»‏.‏

وبعض من لا يأخذون بخيار المجلس قد يستعملون هذه التّسمية أيضاً لكنّهم لا يريدونه، بل يقصدون حالات تخيير أخرى ناشئةً بأسباب شرعيّة، تتقيّد مدّتها بمجلس نشوء الخيار الّذي ثبت لمدّة لا تجاوز زمن المجلس، نحو تفويض الطّلاق للزّوجة، حيث لها أن تطلّق في مجلس علمها ما لم تقم فتبدّل مجلسها، أو تعمل ما يقطع المجلس‏.‏

مشروعيّة خيار المجلس

2 - اختلف الفقهاء في خيار المجلس، فذهب معظمهم إلى القول به، وذهب آخرون إلى إنكاره واعتبار العقد لازمًا من فور انعقاده بالإيجاب والقبول‏.‏

فجمهور الفقهاء من السّلف والخلف، ومنهم الشّافعيّة والحنابلة، ذهبوا إلى إثباته، فلا يلزم العقد عند هؤلاء إلاّ بالتّفرّق عن المجلس أو التّخاير واختيار إمضاء العقد‏.‏

وذهب الحنفيّة والمالكيّة وبعض فقهاء السّلف إلى نفي خيار المجلس‏.‏

كما نفاه من الفقهاء الّذين لم تدوّن مذاهبهم، الثّوريّ واللّيث والعنبريّ‏.‏

واستدلّ القائلون بخيار المجلس من السّنّة القوليّة بما رواه ابن عمر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «المتبايعان كلّ واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرّقا إلاّ بيع الخيار»‏.‏ وفي رواية «ما لم يتفرّقا أو يكون البيع خياراً»‏.‏

وفي رواية أخرى «أو يخيّر أحدهما الآخر»‏.‏

ووجه الاستدلال إثبات الخيار من الشّرع للمتبايعين، وهما متبايعان بعد تمام البيع بالإيجاب والقبول‏.‏ أمّا قبل ذلك فهما متساومان‏.‏ والحديث وإن جاء بلفظ «المتبايعين» يشمل ما في معنى البيع من عقود المعاوضة‏.‏ وورد عن ابن عمر قوله‏:‏ «كانت السّنّة أنّ المتبايعين بالخيار حتّى يتفرّقا»‏.‏ ومن المقرّر في أصول الحديث، وأصول الفقه، أنّ قول الصّحابيّ من السّنّة كذا، له حكم الحديث المرفوع‏.‏

واستدلّوا من السّنّة الفعليّة بأنّه «صلى الله عليه وسلم خيّر أعرابيّاً بعد البيع، أي قال له‏:‏ اختر»، لكي ينبرم العقد، وذلك مصرّح به في الحديث بروايته الأخرى، «أنّه عليه الصلاة والسلام بايع رجلاً فلمّا بايعه قال له‏:‏ اختر، ثمّ قال‏:‏ هكذا البيع»‏.‏

وهناك آثار للصّحابة والتّابعين يرجع إليها في مظانّها‏.‏

واستدلّوا له أيضاً بالمعقول، كحاجة النّاس الدّاعية إلى مشروعيّته، لأنّ الإنسان بعد أن يبيع شيئاً قد يبدو له فيندم، فبالخيار الثّابت له في المجلس يمكنه التّدارك‏.‏

واحتجّ النّفاة بدلائل من الكتاب والسّنّة والقياس‏:‏ فمن الكتاب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ‏}‏ فهذه الآية أباحت أكل المال بالتّجارة عن تراض، مطلقاً عن قيد التّفرّق عن مكان العقد‏.‏

ويترتّب عليه جواز الأكل في المجلس قبل التّفرّق أو التّخاير، وعند القائلين بخيار المجلس، إذا فسخ أحدهما العقد في المجلس لا يباح له الأكل، فكان ظاهر النّصّ حجّةً عليهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ‏}‏ فإذا لم يقع العقد لازمًا لم يتحقّق وجوب الوفاء به، وهو ما تقضي به الآية‏.‏

واحتجّوا من السّنّة بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يستوفيه» فدلّ على أنّه لا تقييد بالتّفرّق، فلو كان قيداً لذكره، كما ذكر قيد الاستيفاء في بيع الطّعام‏.‏ كما أنّهم تمسّكوا بإحدى روايات حديث المتبايعين الّتي فيها‏:‏ «فلا يحلّ له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله»، حيث تدلّ على أنّ صاحبه لا يملك الفسخ إلاّ من جهة الاستقالة‏.‏ وحديث‏:‏ «المسلمون على شروطهم» وفي رواية‏:‏ «عند شروطهم» والقول بالخيار بعد العقد يفسد الشّرط، مع أنّ الحديث يعتبر الشّروط‏.‏

وقاسوا البيع ونحوه من المعاملات الماليّة في هذا على النّكاح، والخلع، والعتق على مال، والكتابة، وكلّ منها عقد معاوضة يتمّ بلا خيار المجلس، بمجرّد اللّفظ الدّالّ على الرّضا، فكذلك البيع‏.‏ كما قاسوا ما قبل التّفرّق على ما بعده، وهو قياس جليّ‏.‏

ومن طريق النّظر قالوا‏:‏ إنّ خيار المجلس خيار بمجهول، فإنّ مدّة المجلس مجهولة، فأشبه ما لو شرطا خياراً مجهولاً، وهذه جهالة فاحشة ممنوعة في الشّرع‏.‏

وكذلك قالوا‏:‏ إنّ البيع صدر من العاقدين مطلقاً عن شرط، والعقد المطلق يقتضي ثبوت الملك في العوضين في الحال‏.‏ فالفسخ من أحد العاقدين يكون تصرّفاً في العقد الثّابت بتراضيهما، أو تصرّفاً في حكمه بالرّفع والإبطال من غير رضا الآخر وهذا لا يجوز، كما لم تجز الإقالة أو الفسخ من أحدهما بعد الافتراق‏.‏

زمن ثبوت الخيار

3 - الزّمن الّذي يثبت فيه خيار المجلس، هو الفترة الّتي أوّلها لحظة انبرام العقد، أي بعد صدور القبول موافقاً للإيجاب‏.‏

أمد الخيار

4 - أمد خيار المجلس لا يمكن تحديده، لأنّه موكول لإرادة كلّ من المتعاقدين، فيطول برغبتهما في زيادة التّروّي، ويقصر بإرادة المستعجل منهما حين يخاير صاحبه أو يفارقه‏.‏ فهو يخالف في هذا خيار الشّرط القائم على تعيين الأمد بصورة محدّدة‏.‏

فانتهاء الخيار على هذا غير منضبط لارتباطه بأحد أمرين‏:‏ التّفرّق أو التّخاير‏.‏ وكلاهما غير معروف زمن حصوله‏.‏

ولكنّ هناك وجهاً في المذهب الشّافعيّ، وصفه النّوويّ بأنّه ضعيف، مفاده‏:‏ أنّ لخيار المجلس أمداً أقصى هو ثلاثة أيّام كي لا يزيد عن خيار الشّرط‏.‏

وهناك وجه ثالث أنّ من مسقطاته شروع أحد المتعاقدين في أمر آخر، وإعراضه عمّا يتعلّق بالعقد مع طول الفصل‏.‏ فهذا المسقط يقصّر من أجل الخيار أكثر من التّفرّق أو التّخاير‏.‏ لأنّه يحصره في حالة التّعاقد الجادّة وهي برهة يسيرة‏.‏

والرّاجح لدى الشّافعيّة هو الوجه الأوّل القائل بأنّه ثابت حتّى التّفرّق أو التّخاير‏.‏

انتهاء الخيار

5 - أسباب انتهاء الخيار منحصرة في التّفرّق، والتّخاير ‏"‏ اختيار إمضاء العقد ‏"‏‏.‏

وهناك سبب ثالث ينتهي به الخيار تبعاً لانتهاء العقد، أصلاً، وهو فسخ العقد، ذلك أنّ الفسخ هو الّذي شرع خيار المجلس لإتاحته، لكنّه يأتي على العقد وما بني عليه‏.‏

وكذلك يسقط الخيار بالتّصرّف في المبيع، وبالموت، على خلاف بين المذاهب القائلة بخيار المجلس‏.‏

أوّلاً‏:‏ التّفرّق

6 - ينتهي خيار المجلس بالتّفرّق، وهو سبب متّفق عليه بين المثبتين له، ويراعى فيه عرف المتعاقدين‏.‏

ثانياً‏:‏ التّخاير

اختيار لزوم العقد

7 - من أسباب انتهاء خيار المجلس اختيار لزوم العقد، على أن يحصل ذلك من العاقدين كليهما، فيسقط به الخيار، وسبيله أن يقولا‏:‏ اخترنا لزوم العقد، أو أمضيناه، أو ألزمناه، أو أجزناه أو نحوه‏.‏

واجتماعهما على اختيار اللّزوم يسمّى‏:‏ التّخاير، وله نظير الأثر الّذي يحدث بالتّفرّق‏.‏

الخلاف في التّخاير

8 - اختلف المثبتون لخيار المجلس في انتهائه بالتّخاير، فذهب الشّافعيّة وأحمد في رواية وصفها ابن قدامة بأنّها أصحّ إلى انتهاء خيار المجلس بالتّخاير‏.‏

وذهب أحمد في رواية أخرى إلى عدم انتهاء خيار المجلس بالتّخاير، وهو ظاهر كلام الخرقيّ في مختصره‏.‏ مستند الرّواية المقتصرة على التّفرّق أنّ أكثر الرّوايات عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا» من غير تقييد ولا تخصيص، وهي رواية حكيم بن حزام، وأبي برزة، وأكثر الرّوايات عن ابن عمر‏.‏

أمّا مستند الرّواية المصحّحة الّتي تجعل المسقط أحد الأمرين‏:‏ التّفرّق أو التّخاير، فهو الرّوايات الأخرى المتضمّنة لذينك الأمرين، كرواية ابن عمر المرفوعة‏:‏ «فإن خيّر أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع» أي لزم، وفي رواية أخرى متّفق عليها‏:‏ «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرّقا إلاّ أن يكون البيع كان عن خيار فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع» قال ابن قدامة‏:‏ والأخذ بالزّيادة أولى‏.‏

أحكام التّخاير

9 - التّخاير إمّا أن يحصل صراحةً بنحو عبارة‏:‏ اخترنا إمضاء العقد، وإمّا أن يقع ضمناً، ومثاله‏:‏ أن يتبايع العاقدان العوضين ‏"‏ اللّذين جرى عليهما العقد الأوّل ‏"‏ بعد قبضهما في المجلس، فإنّ ذلك متضمّن للرّضا بلزوم العقد الأوّل‏.‏

بل يكفي تصرّف أحد العاقدين مع الآخر بالعوض الّذي له، أي لا يشترط تبايع العوضين، بل هو مجرّد تصوير، ويكفي بيع أحدهما لسقوط الخيار وإمضاء العقد‏.‏

وانتهاء خيار المجلس بالتّخاير، إنّما هو إذا وقع اختيار الفسخ أو الإمضاء من العاقدين، أو قال كلّ منهما للآخر‏:‏ اختر، فيؤدّي ذلك لسقوط الخيار‏.‏ أمّا إذا قال أحدهما للآخر‏:‏ اختر، فسكت ولم يجب بشيء، فما حكم خيار السّاكت‏؟‏ وما حكم خيار القائل‏؟‏‏.‏

خيار السّاكت بعد التّخيير

ذهب الشّافعيّة وهو الرّاجح عند الحنابلة إلى أنّ السّاكت لا ينقطع خياره‏.‏

والقول الثّاني للحنابلة‏:‏ سقوط خياره‏.‏

واستدلّ للاتّجاه الأوّل بأنّه لم يوجد منه ما يبطل خياره فلم يحصل الرّضا، إنّما سكت عن الفسخ أو الإمضاء‏.‏ فإسقاط خياره يتنافى مع حقّه في الخيار والاختيار بنفسه‏.‏

واستدلّ للاتّجاه الثّاني بقياس السّقوط على الثّبوت، فكما أنّ ثبوت خيار المجلس لا يتجزّأ فلا يثبت لأحدهما دون الآخر، فكذلك سقوطه، ليتساويا في انتهاء العقد، كما تساويا في قيامه ونشوئه‏.‏

خيار المنفرد بالتّخيير

أمّا خيار الّذي بادر إلى تخيير صاحبه فلم يجبه هذا بشيء، ففيه عند الشّافعيّة والحنابلة رأيان‏:‏ الأوّل‏:‏ سقوط خياره - وهو الأصحّ - بدلالة تعليق الحديث مصير خيار العاقد على صدور التّخيير منه، ولأنّه جعل لصاحبه ما ملكه من الخيار فسقط خياره‏.‏

الرّأي الثّاني‏:‏ لا يسقط خياره، لأنّه خيّر صاحبه فلم يختر، فلم يؤثّر فيه، لأنّ إقدامه على التّخيير كان بقصد الاجتماع على رأي واحد لهما، فلمّا لم يحصل بقي له خياره‏.‏

اختيار فسخ العقد

10 - سواء حصل الفسخ للعقد من العاقدين جميعاً، أو من أحدهما، فإنّ العقد ينفسخ بصدوره من أحدهما، ولو تمسّك الآخر بإجازة العقد، ذلك أنّ الفسخ مقدّم على الإجازة حين اختلاف رغبة المتعاقدين، لأنّ إثبات الخيار إنّما قصد به التّمكّن من الفسخ دون الإجازة لأصالتها‏.‏ والفسخ - كما ذكر النّوويّ - مقصود الخيار‏.‏

وفسخ العقد مسقط للخيار تبعاً، لأنّ سقوطه كان لسقوط العقد أصلًا، فيسقط الخيار أيضاً لابتنائه عليه، وحسب القاعدة الشّرعيّة ‏"‏ إذا بطل الشّيء بطل ما في ضمنه ‏"‏‏.‏

ولا فرق بين حصول الفسخ مباشرةً، أو عقب تخيير أحدهما الآخر، فالأثر للفسخ، لأنّه هو مقصود الخيار‏.‏

ثالثاً‏:‏ التّصرّف‏:‏

11 - يفترق الشّافعيّة عن الحنابلة في هذا المسقط، ففي حين يأباه الأوّلون، ويصرّحون بأنّ التّصرّف في المبيع أو الثّمن لا يسقط خيار المجلس في غير صورة البيع كما سبق، يذهب الحنابلة إلى التّفصيل، ففي عدّة صور يسقط بالتّصرّف من المشتري - أو البائع - خيارهما جميعاً، أو خيار أحدهما‏.‏

وتجدر الإشارة إلى أنّ أكثر فقهاء الشّافعيّة اكتفوا بالبيان دلالةً دون التّصريح بعدم الأثر للتّصرّف في إسقاط خيار المجلس، حيث نصّوا في باب خيار الشّرط على إسقاطه إيّاه، وسكتوا في خيار المجلس عن اعتباره مسقطاً، لكنّ بعضهم عزّز هذا البيان بالتّصريح، ففي شرح القاضي زكريّا لمختصره ‏"‏ المنهج ‏"‏ عندما اقتصر على المسقطين‏:‏ التّخاير والتّفرّق، أضاف محشّيه سليمان الجمل قائلاً من طريق الحاشية على نهاية المحتاج عن شرح العباب‏:‏ إنّه يفهم من حصره لقاطع الخيار فيهما، أنّ ركوب المشتري الدّابّة المبيعة لا يقطع، وهو أحد وجهين لاحتمال أن يكون لاختبارها، والثّاني يقطع، لتصرّفه، والّذي يتّجه ترجيحه الأوّل، ولا نسلّم أنّ مثل هذا التّصرّف يقطعه، ويقاس بالمذكور ما في معناه، ثمّ أكّد هذا بأنّه من الفروق بين خيار المجلس وخيار الشّرط‏.‏

أمّا الحنابلة، فلديهم صور يسقط بها خيار المتعاقدين أهمّها‏:‏ تصرّف المشتري بإذن البائع له في ذلك التّصرّف، فإنّه مسقط لخيارهما، والتّصرّف صحيح، وذلك لدلالته على تراضيهما بإمضائه، فليس أقلّ أثرًا من التّخاير‏.‏

أمّا تصرّف البائع بإذن المشتري، فالرّاجح أنّه مماثل في الحكم لتصرّف المشتري، وقد ذكر في المغني أنّ فيه احتمالين، وأنّ الوجه في احتمال عدم إسقاطه للخيار، أنّه لمّا كان لا يحتاج إلى الإذن، فتصرّفه كما لو كان بغير إذن‏.‏

أمّا تصرّف أحدهما بتصرّف ناقل، كالبيع أو الهبة، أو الوقف، أو بتصرّف شاغل كالإجارة، أو الرّهن‏.‏‏.‏ فلا يسقط الخيار، لأنّ البائع تصرّف في غير ملكه - بناءً على أنّ الملك في مدّة الخيار للمشتري عندهم - وأمّا المشتري فإنّه يسقط حقّ البائع من الخيار، واسترجاع المبيع، وقد تعلّق حقّ البائع به تعلّقاً يمنع جواز التّصرّف فمنع صحّته أيضاً‏.‏

رابعاً‏:‏ إسقاط الخيار ابتداءً

12 - المراد هنا بإسقاط الخيار‏:‏ التّنازل عنه قبل استعماله، وذلك قبل التّعاقد، أو في بداية العقد قبل إبرامه، وتسمّى هذه المسألة‏:‏ التّبايع بشرط نفي الخيار‏.‏ وعلى هذا الاصطلاح لا يعتبر منه التّخلّي عن الخيار بعد التّعاقد، أثر استحقاق العاقدين له وسريان المجلس، فالتّخلّي عنه حينئذ بالتّخاير يستحقّ اسم ‏"‏ الانتهاء ‏"‏ للخيار، لا الإسقاط له‏.‏

أمّا حكم هذا الإسقاط فقد اختلف فيه القائلون بخيار المجلس، فكان لهم فيه الآراء التّالية‏:‏ الأوّل‏:‏ صحّة الإسقاط، وهو مذهب الحنابلة، ووجه ليس بالمصحّح عند الشّافعيّة‏.‏

الثّاني‏:‏ امتناع الإسقاط وبطلان البيع أيضاً، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة، وهو المنصوص في البويطيّ، وكتب المذهب القديم‏.‏

الثّالث‏:‏ امتناع الإسقاط وصحّة البيع، وهو وجه عند الشّافعيّة غير مصحّح‏.‏

وسواء في إسقاط الخيار في ابتداء العقد أن يسقطاه كلاهما، أو ينفرد أحدهما بإسقاط خياره، أو يشترطا سقوط خيار أحدهما بمفرده‏.‏

ففي إسقاط خياريهما يلزم العقد، وفي إسقاط خيار أحدهما يبقى خيار الآخر‏.‏

وقد احتجّ من صحّح إسقاط الخيار قبل العقد بحديث الخيار نفسه، حيث جاء في إحدى رواياته‏:‏ «فإن خيّر أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع»‏.‏

وفي رواية‏:‏ «إلاّ أن يكون البيع كان عن خيار، فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع»‏.‏

وهذه الرّوايات، وإن كان المراد بها التّخاير في المجلس، فهي عامّة تشمله وتشمل التّخاير في ابتداء العقد، فهما في الحكم شيء واحد‏.‏ ولأنّ ما أثّر في الخيار في المجلس، أثّر فيه مقارناً للعقد، فكما يكون للعاقد التّنازل عن الخيار بعد استحقاقه له ذلك قبيل التّعاقد، وتشبيهه بخيار الشّرط في جواز إخلاء العقد عنه، فكذلك خيار المجلس‏.‏

وممّا استدلّ به بعض أصحاب الشّافعيّ الّذين نحوا في هذه المسألة منحى الحنابلة، أنّ الخيار جعل رفقاً بالمتعاقدين، فجاز لهما تركه‏.‏ ولأنّ الخيار غرر فجاز إسقاطه‏.‏

أمّا دليل المنع - وهو الأصحّ في مذهب الشّافعيّ - فهو أنّه إسقاط للحقّ قبل ثبوت سببه، إذ هو خيار يثبت بعد تمام البيع فلم يجز إسقاطه قبل تمامه، وله نظير هو ‏"‏ خيار الشّفعة ‏"‏ فإنّ حقّ الشّفيع في ذلك لا يمكن إسقاطه قبل ثبوته‏.‏

واحتجّ بعضهم بأنّ إسقاط خيار المجلس ينافي مقتضى البيع لثبوته شرعاً مصحوباً بالخيار، فأشبه ما لو شرط أن لا يسلّم المبيع‏.‏

أمّا دليل جواز إسقاط الشّرط فقط وصحّة البيع، فهو ما في الشّرط من مخالفة مقتضى العقد، لكنّه لمّا كان لا يؤدّي إلى جهالة في أحد العوضين، يبطل وحده ولا يبطل العقد‏.‏

أسباب انتقال الخيار

أوّلاً‏:‏ الموت

13 - اختلفت الآراء في أثر الموت على خيار المجلس على الصّورة التّالية‏:‏

الأوّل‏:‏ انتقال الخيار بالموت إلى الوارث، وهو الأصحّ من مذهب الشّافعيّة‏.‏

الثّاني‏:‏ سقوط الخيار بالموت، وهو مذهب الحنابلة‏.‏

الثّالث‏:‏ التّفصيل بين وقوع المطالبة من الميّت به في وصيّته، وعدم تلك المطالبة، وهو قول للحنابلة‏.‏ استدلّ القائلون بانتقال الخيار - بالموت - إلى الورثة بظاهر القرآن، والأحاديث، في انتقال ما تركه الميّت من حقّ إلى الورثة، ومن ذلك حديث‏:‏ «من ترك مالاً فلورثته»‏.‏ وخيار المجلس خيار ثابت لفسخ البيع فلم يبطل بالموت كخيار الشّرط‏.‏

كما استدلّوا بقياس خيار المجلس على خيار العيب، فكلاهما حقّ لازم ثابت في البيع بحكم الشّرع، ولا خلاف في انتقال خيار العيب بالموت، فكذلك خيار المجلس‏.‏

ويقاس أيضاً على خيار الشّرط، وهم يقولون بأنّه ممّا يورث‏.‏

واستدلّ القائلون بإبطال الخيار بموت صاحبه، بأنّه إرادة ومشيئة، تتّصل بشخص العاقد، وانتقال ذلك إلى الوارث لا يتصوّر‏.‏

ثانياً‏:‏ الجنون ونحوه

14 - إذا أصيب أحد العاقدين في مجلس العقد بالجنون، أو أغمي عليه، انتقل الخيار - في الأصحّ - إلى الوليّ، من حاكم أو غيره‏:‏ كالموكّل عند موت الوكيل، وقد ارتأى بعض الفقهاء أنّ ذلك حيث يئس من إفاقته أو طالت مدّته، لكنّ الرّاجح عدم الانتظار مطلقاً‏.‏ وكذلك إن خرس أحدهما، ولم تفهم إشارته، ولا كتابة له، نصّب الحاكم نائباً عنه، وإن أمكنت الإجازة منه بالتّفرّق، وليس هو محجوراً عليه وإنّما الحاكم ناب عنه فيما تعذّر منه بالقول، أمّا إذا فهمت إشارته، أو كان له كتابة فهو على خياره‏.‏

وهناك قول آخر بسقوط الخيار في الجنون والإغماء، لأنّ مفارقة العقل ليست أولى من مفارقة المكان‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ الجنون لا يبطله، فهو على خياره إذا أفاق، أمّا في مطبق الجنون والإغماء، فيقوم أبوه أو وصيّه أو الحاكم مقامه، بخلاف الموت لأنّه أعظم الفرقتين‏.‏

آثار خيار المجلس

15 - لخيار المجلس آثار مختلفة في العقد، لكنّ أحدها يعتبر الأثر الأصليّ للخيار، في حين تكون الأخرى آثاراً فرعيّةً، هذا الأثر الأصليّ هو المقصود من الخيار من كلّ الخيارات‏.‏ ولذا يمكن أن يسمّى ‏"‏ الأثر العامّ ‏"‏، وهو منع لزوم العقد، ويترتّب على امتناع لزوم العقد آثار متفرّعة عنه تتّصل بانتقال الملك وغيره‏.‏

أوّلاً‏:‏ الأثر الأصليّ

منع لزوم العقد‏:‏

16 - مفاد ذلك اعتبار العقد غير لازم إلى أن يحصل التّفرّق عن مجلس العقد، أو اختيار إمضاء العقد‏.‏ فيكون لكلّ من العاقدين فسخه قبل ذلك‏.‏

وهذا الأثر متّفق عليه عند القائلين بخيار المجلس، ذلك أنّ مقصود الخيار الفسخ، ولا يتحقّق هذا المقصود إلاّ بتقاصر العقد عن مرتبة القوّة، والاستعصاء عن الفسخ‏.‏

وهذا التّقاصر سبيله أن يظلّ العقد غير لازم إلى أن ينتهي الخيار‏.‏

ثانياً‏:‏ الآثار الفرعيّة

انتقال الملك‏:‏

17 - هذا الأثر مختلف فيه بين الفقهاء القائلين بخيار المجلس على رأيين‏:‏

الرّأي الأوّل‏:‏ فقدان الأثر‏:‏

وهذا ما ذهب إليه الحنابلة - في ظاهر المذهب - ‏"‏ وهو نصّ الشّافعيّ في زكاة الفطر ‏"‏‏.‏ وعلى هذا ينتقل الملك إلى المشتري مع وجود خيار المجلس‏.‏ ولا أثر له على نفاذ العقد، بمعنى أنّه لا يتوقّف، كما لا أثر له على صحّة العقد، فهو ينتج أحكامه كلّها - مع بقائه قابلاً للفسخ - خلال المجلس إلى حصول ما ينهي الخيار من تفرّق أو تخاير‏.‏

الرّأي الثّاني‏:‏ تقييد النّفاذ‏:‏

وهو مذهب الشّافعيّة - في الأظهر عندهم من ثلاثة أقوال - أنّ للخيار أثرًا في نفاذ أحكام العقد، فهو يعتبر موقوفاً مراعىً من حيث انتقال الملك، فلا يحكم بأنّه مملوك للمشتري ولا للبائع، بل ينتظر، فإن تمّ العقد، حكم بأنّه كان ملكًا للمشتري بنفس العقد، وإلاّ فقد بان أنّه ملك البائع لم يزل عن ملكه‏.‏ وهكذا يكون الثّمن موقوفاً‏.‏

واستدلّ أصحاب الرّأي الأوّل ‏"‏ القائل بانتقال الملك ‏"‏ بأدلّة كثيرة، أهمّها الاستدلال بالسّنّة، وهي قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من باع عبداً وله مال، فماله للبائع، إلاّ أن يشترطه المبتاع» وحديث‏:‏ «من باع نخلاً بعد أن تؤبّر، فثمرتها للبائع إلاّ أن يشترط المبتاع»‏.‏ وجه الدّلالة فيهما‏:‏ أنّه جعل المال المصاحب للعبد، والثّمرة للمبتاع بمجرّد اشتراطه، واستدلّوا من وجوه المعقول، بأنّ البيع مع وجود خيار المجلس بيع صحيح، فينتقل الملك في أثره، ولأنّ البيع تمليك، فيثبت به الملك، وثبوت الخيار فيه لا ينافيه‏.‏

أمّا أصحاب الرّأي الثّاني ‏"‏ القائل بأنّ الملك موقوف مراعىً إلى أن ينتهي الخيار، فيعرف كيف كان عند العقد ‏"‏ وهو ظاهر مذهب الشّافعيّة بأنّ الخيار ‏"‏ كخيار الشّرط مثلاً ‏"‏ إذا ثبت للبائع وحده لم ينتقل الملك في العوضين، وإذا ثبت للمشتري وحده انتقل الملك فيهما، فإذا ثبت الخيار للعاقدين ‏"‏ وذلك ما يحصل في خيار المجلس بحكم الشّرع ‏"‏ فإنّ مقتضى ثبوته للبائع عدم انتقال الملك، ومقتضى ثبوته للمشتري انتقاله، فلا بدّ من التّوقّف والمراعاة ‏"‏ التّرقّب ‏"‏ إلى أن ينتهي الخيار بالتّفرّق، أو التّخاير، أو غيرهما‏.‏

أثر خيار المجلس على العقد بخيار شرط

18 - لا أثر لخيار المجلس على خيار الشّرط، فإنّ مدّة خيار الشّرط تحسب من حين العقد الواقع فيه الشّرط‏.‏ هذا إذا كان خيار الشّرط قد اشترط في العقد، أمّا إن اشترط في المجلس فإنّ المدّة تحسب من حين الشّرط‏.‏

خيار المرابحة

انظر‏:‏ بيع الأمانة‏.‏

خيار المسترسل

انظر‏:‏ بيع الأمانة‏.‏

خيار المواضعة

انظر‏:‏ بيع الأمانة‏.‏

خيار النّجش

انظر‏:‏ بيع منهيّ عنه‏.‏